معضلة القنفد هي مفهوم فلسفي عميق، تم
التطرق إليه لأول مرة من طرف الفيلسوف الألماني الشهير آرثر شوبنهاور، وقد أصبح جزءًا لا يتجزأ من أدبيات علم النفس خاصة عند مؤسس هذا العلم سيغموند فرويد. يعكس
هذا المفهوم التحدي الكبير الذي يعاني منه الإنسان في بناء علاقات حميمية مع
الآخرين دون التسبب في الأذى لنفسه أو الإضرار بالآخرين.
القصة الحقيقية لمعضلة القنفذ
في أحد أيام الشتاء شديدة البرودة، كانت
مجموعة من القنافذ تحس بالبرد فاضطرت إلى التجمع بالقرب من بعضها البعض من أجل
تدفئة أنفسهم. لكن، بسبب كثرة الأشواك الموجودة فوق أجسادهم، بدأوا جميعًا في وخز
بعضهم البعض، مما دفعهم إلى الابتعاد عن بعضهم البعض قصد تجنب الألم، لكن برودة
الطقس أعادتهم إلى محاولة التقرب من بعضهم البعض مرة أخرى. بعد تجربة عدة محاولات،
توصلوا إلى أنه من الأفضل لهم جميعًا البقاء على مسافة كافية ومتوسطة توفر لهم
دفئًا كافيًا من دون أن يتعرضوا للأذى من أشواك بعضهم.
كيف فسر شوبنهاور معضلة القنفذ؟
![]() |
كيف فسر شوبنهاور معضلة القنفذ؟ |
طبقًا للفيلسوف شوبنهاور، تظهر هذه
القصة معضلة البشر في حياتهم الاجتماعية. البشر يحتاجون، لا شك، إلى القرب والدفء
الإنساني من بعضهم البعض، كما كانت القنافذ تحتاج إلى الدفء من البرد القارس،
لكنها للأسف كلما اقتربت من الآخرين أكثر، تصبح عرضة لأذى وجراح الأشواك. بمفهوم
آخر، هناك العديد من الحدود الطبيعية التي تعيق البشر من الاقتراب الكامل من بعضهم
البعض؛ حيث يؤدي الانفتاح الزائد على الآخر إلى الإحساس بالضعف والتعرض للألم.
هذا الأمر يظهر جليًا في حياتنا
اليومية؛ فعندما نقترب كثيرًا من الآخرين، نفتح قلوبنا على مصراعيها لهم ونعرض
أنفسنا بالتالي للأذى. بالضبط كما وقع مع القنافذ، فإن الاقتراب المفرط من البشر
يؤدي إلى الأذى والوخز والمشاعر السلبية.
استخدام فرويد لمعضلة القنفذ
تناول سيغموند فرويد هذا المفهوم في
سياق العلاقات البشرية التي تعتبر طويلة الأمد. في مقاله المنشور سنة 1921، أشار
فرويد إلى ما سماه "بقايا مشاعر العداء والنفور" التي تخلق مع مرور
الزمن في العلاقات الإنسانية، إذ يبدأ أحد الطرفين أو الطرفان معًا بالتساؤل عن
مدى بقاء الحميمية في العلاقة وما إذا كانت هذه العلاقة تستحق البقاء والاستمرار.
يظهر أن فرويد وضع معنى آخر للمعضلة، مضيفًا أن الإنسان يتوق إلى الإحساس
بالحميمية لكنه يخاف الألم الذي قد ينتج عنها.
الناس، طبقًا لسيغموند فرويد، يرغبون
دائمًا في بناء علاقات حميمية، لكن في الوقت ذاته يعرفون أن هذه العلاقات قد تكون
منبعًا للألم والمعاناة. لهذا يجب أن يكون الإنسان مستعدًا دائمًا لتحمل هذا الألم
كجزء لا يتجزأ من تجربته الإنسانية.
كيف يمكن بناء علاقات صحية؟
في محاولة لإيجاد حل لهذه المعضلة،
يقترح عالم الاجتماع "ريتشارد سينيت" مفهوم "التعاطف والتفهمالوجداني". التعاطف يعني العمل على فهم أحاسيس الطرف الآخر بشكل عميق، لكن من
دون تجاوز الحدود الشخصية، أما التفهم الوجداني فهو عملية أكثر تعقيدًا تحتاج إلى
تواصل وحوار دائم للوصول إلى نقاط الالتقاء، مع الحفاظ على مسافة آمنة لضمان
خصوصية كل طرف في العلاقة.
وفقًا لمفهوم سينيت، الابتعاد قليلًا يمكن أن يكون مفيدًا في الحفاظ على التوازن الإنساني بين الاحتياج للدفء من الآخر والرغبة كذلك في تجنب الألم، كما وقع مع القنافذ.
أمثلة على معضلة القنفذ في حياتنا اليومية
إنقاص الوزن:
الإنسان الذي يرغب في اتباع نظام غذائي
يعاني من معضلة القنفذ مع الأطعمة غير الصحية. على الرغم من أنه يدرك ضرورة التوقف
أو تخفيف استهلاكها، لكنه يشعر باستمرار بالانجذاب إليها.
الإدمان ومعضلة القنفذ :
الإنسان المدمن على سبيل المثال، على
التدخين أو الكحول، يعيش في معضلة القنفذ. هذا الشخص المدمن دائمًا يريد التوقف عن
التعاطي، لكنه في الوقت نفسه يتوق إلى التعاطي ويجد صعوبة كبيرة في تركها.
الطالــــــب:
يعاني الطالب الذي يحتاج إلى التركيز
على الدراسة من التشتت بسبب وسائل التواصل الاجتماعي. فهو يرغب في النجاح في
تعليمه الأكاديمي، لكنه في الوقت نفسه يجد صعوبة كبيرة في الهروب من المشتتات
التكنولوجية الحديثة.
الحكم المستفادة من معضلة القنفذ
التوازن في العلاقات الإنسانية: معضلة
القنفذ لا تعني بالضرورة الانعزال عن الوسط الاجتماعي، بل تفرض تحقيق توازن بين
البعد والقرب لتجنب أذى الآخرين.
الحفاظ على الخصوصية: من المهم جدًا أن
يحافظ الإنسان على مسافة أمان بينه وبين الآخرين، حتى في العلاقات القريبة، لتجنب
الأذى الناتج عن التعرض المفرط.
تقبل الألم كجزء من الحياة: يجب أن يكون
الإنسان مستعدًا دائمًا لتقبل الألم الناتج عن العلاقات، لكن في الوقت نفسه لا يجب
أن يجعل هذا الخوف مانعًا له من بناء علاقات حقيقية.
معضلة القنفذ في الثقافة الشعبية
تم إبراز معضلة القنفذ في الكثير من
القصص والأفلام، من بينها فيلم "نيو جينيسيس إيفانجيليون"، حيث يتم
تصوير القنفذ وهو في محاولة للبحث عن صديق. في آخر الأمر، يجد صديقًا يتوافق معه،
وهو السلحفاة التي لا تشكو من أشواكه. هذا يعكس، لا شك، حاجة الإنسان إلى رفيق
يتمكن من تحمل عيوبه ويكون متسامحًا مع نقاط ضعفه.
وسائل التواصل الاجتماعي ومعضلة القنفذ
كيف يمكننا اليوم، في عصر مواقع التواصل
الاجتماعي، بناء علاقات صحية مع الآخرين دون أن تنتهك خصوصياتنا أو نتعرض للأذى
النفسي؟ الحل يكمن في إيجاد علاقات متوازنة بين الانفتاح على الآخرين والحفاظ على
مسافة آمنة تضمن سلامتنا النفسية.
تمكننا معضلة القنفذ من تعلم توازن دقيق
في علاقتنا مع الآخر بين البعد والقرب، فلا يجب أن نخاف من الاقتراب من الآخرين،
ولكن يجب في الوقت نفسه أن نحافظ على مسافة معقولة تضمن لنا الحماية من الأذى. كما
أن الحلم في إيجاد أشخاص يتفهموننا، كما وجد القنفذ صديقه السلحفاة، يجب أن يكون
دافعًا حقيقيًا لنا للاستمرار في البحث عن علاقات مستدامة وصحية.